Arabic

فن الترجمة بين النقل الآلي والحس الإبداعي جهينة علي حسـن دمـشــق - سوريا
ليس استطراداً القول إن «الإنسان هو كائن اجتماعي بالطبع»، هكذا يقول الفلاسفة منذ القدم، وتابعهم من بعد ذلك علماء الاجتماع وعلى رأسهم ابن خلدون في مقدمته الشهيرة «باب أن الاجتماع الإنساني ضروري». وتقتضي هذه الحقيقة أن الإنسان بصفته كائناً اجتماعياً فإنه يستفيد من تجارب الآخرين وخبراتهم، ويفيدهم هو الآخر أيضاً بتجاربه وخبراته، أي أنها عملية أخذ وعطاء ومن جانبين، لتعبر عن معاني ومضامين ومديات التلاقح الحضاري بين شعوب الأرض.

وفي معمعة التبادل الثقافي والحضاري هذه تبرز بصورة جلية عملية الترجمة، وهي في الحقيقة عامل مهم في نقل خبرات الآخرين وعلومهم، ومنذ القديم اعتمدت شعوب الأرض بكافة أعراقها ومناطقها على عملية الترجمة لنقل ما عند الآخرين من أشياء مفيدة، وليس عنا ببعيد عثور علماء الآثار في منطقة بابل في العراق –كما يذكر صاحب كتاب (أطلس التاريخ العربي) ص18، على لوح طيني يرجع للقرن الثامن قبل الميلاد يحتوي على رسم تفصيلي لمثلثات وتحتها حسابات عددية كسرية تمثل ما عرف فيما بعد بنظرية فيثاغورث في علم المثلثات، التي بنيت عليها كثير من الأسس الهندسية والرياضية، مما يجعلنا فيما نميل إلى أن اليونان نقلوا تلك النظرية من أرض الرافدين وترجموها إلى لغتهم، ثم نشروها للعالم في مؤلفاتهم الرياضية والهندسية، مع أنها في الأصل من بلاد الرافدين، بل ربما يكون أهل الرافدين قد نقلوها بدورهم من شعب لآخر، لأن كثيراً من النواحي الحضارية والعلمية التي تنتقل بين شعوب الأرض يمكن تشبيهها بالنهر الذي نعرف مصبه لكننا لا نعرف منابعه.

وفي عصر النهضة العربية، في القرون الثاني والثالث والرابع الهجرية، نقل العرب كثيراً من علوم الأمم المجاورة لهم، كعلوم الهند وفارس واليونان واشتهر في ذلك العصر كثير من المترجمين، كانت الخلافة تنعم عليهم وتجزل لهم العطاء، هم والعلماء والمؤلفون كافة، واستمر الدعم اللامحدود للحركة العلمية والمسيرة الحضارية إلى أن أصبحت ديار الإسلام منارة علم ومراكز بحث تبعث إليها الشعوب المجاورة أبناءها ليتعلموا ويكتسبوا أنماطاً عديدة للتفكير العلمي المنتج والبناء. ومراجعة بسيطة لكتاب (الفهرست) لابن النديم، وهو يعتبر بحق أعظم عالم كتبي (بيبلوغرافي) في عصر النهضة العربية، توضح لنا مدى وعظم الإنتاج الفكري والترجمي في تلك الحقبة الزاهرة.

لكن هذه الأداة، أعني الترجمة، ليست كما يتصور الكثير من أنها عملية بسيطة العناصر أو سهلة التركيب أو يسيرة الإنشاء، مثل أي عمل كتابي آخر، ذلك أن المترجم من الممكن أن يسيء إلى النصوص والخبرات التي ينقلها أكثر مما يحسن إليها، هذا في أسوأ الأحوال. وفي أحسن الأحوال لا يسلم من هنّة هنا أو خطأ هناك لأن الكمال عزيز كما يقول أهل العلم، لكن هذا لا يعني التغاضي عن المسيء أو ترك الحبل على الغارب لكل من أراد.

وفي وسط ذلك الزخم الترجمي الذي أسلفت، أعني في عصر النهضة العربية خاصة في القرن الثالث الهجري، كان هناك أديب يرقب ما يقوم به المترجمون ويفحص نصوصهم بعقل القارئ الخبير، وكان لذلك الأديب من متابعته لما يقوم به المترجمون أن يلاحظ ما تنطوي عليه الترجمة من إشكالات يولدها اختلاف أنظمة اللغات خاصة في ناحية النظم syntax أي نظم الكلمات في الجملة وعلاقتها بعضها ببعض، وكذلك في ناحية المفردات. يقول أديبنا هذا، هو أبو عثمان الجاحظ، في الشروط المبدئية للمترجم (الحيوان 1/76): «لا بد للترجمان من أن يكون بيانه في نفس الترجمة في وزن علمه في نفس المعرفة، وينبغي أن يكون أعلم الناس باللغة المنقولة والمنقول إليها، حتى يكون فيهما سواء وغاية». ثم يذكر أهم المشكلات التي تعتري المترجم وتتجلى في ترجمته فيقول: « ومتى وجدناه أيضاً (أي المترجم) قد تكلم بلسانين، علمنا أنه قد أدخل الضيم عليهما، لأن كل واحدة من اللغتين تجذب الأخرى وتأخذ منها وتعترض عيها». وملاحظة الجاحظ الأخيرة حول اعتراض اللغة للأخرى أثناء الترجمة أو تأثير لغة على الأخرى خلال الترجمة هي من قبيل ما يسمى في فقه اللغة المعاصر ب(التدخل transfer أو interference) ويقصد به –بصورة مبسطة جداً- تداخل أو بالأحرى تأثير نظام اللغة الأم في استعمال اللغة الثانية، هذا في حالة المتعلم، وأما في حالة المترجم فيعني تأثير نظام اللغة الأصل (المصدر) في استعمال اللغة المنقول إليها، وسنرى أمثلة له بعد قليل. ثم يثني الجاحظ بترجمة كتب الدين ويطرح تساؤلاً مهماً مشيراً بذلك إلى أن العبء سيكون أعظم والمسؤولية أكبر، يقول: «هذا قولنا في (ترجمة) كتب الهندسة والتنجيم والحساب واللحون، فكيف لو كانت هذه الكتب كتب دين وإخبار عن الله عز وجل؟».

هذه مقتبسات مما ينبغي أن يتوفر عليه المترجم لكي يصبح مؤهلاً لترجمة النصوص المراد ترجمتها، لكن أين نحن، كمترجمين ننتمي إلى عصر المعلومات، مما ينبغي عليه أن يكون الترجمان؟ طبعاً لا أقصد هنا تعتمي المشهد بالمرة ووصم جهودنا الترجمية بالنقص أو القصور، لا ليس كذلك، لن هناك الكثير من الجهود الترجمية المتميزة، بل هناك الكثير من المترجمين الأكفياء والمتمرسين لكن يظل هناك قصور بلا ريب لدى بعض المترجمين يتجلى بصورة واضحة في ما يقومون به من جهود. خذ مثلاً ما تقوم به الشركات كشركات التقنية العالمية، عندما تترجم منتجاتها أو تسوق لها في المنطقة العربية، أو في ترجمة أدلة التشغيل للأجهزة التي تبيع أو الأنظمة التي تسوق لها، عندما نفحص هذه المرفقات المترجمة فإننا سنجد أن عملية الترجمة في تلك الحالات قد وكلت إلى مترجمين ليسوا ملمين بأنظمة اللغة التي ينقلون إليها، أي أن هؤلاء المترجمين يخلون بكثير مما ينبغي أن يكون عليه الترجمان من علم ودراية وممارسة، ولك لا نذهب بعيداً ي الكلام النظري المجرد. ولكي نرى مثالاً ملموساً على هذه الترجمات غير الملمة بأنظمة اللغات فما عليك عزيزي القارئ إلا أن تقلب لوحة مفاتيح (مايكروسوفت) ظهراً لبطن، لنجد قطعة مترجمة إلى العربية بعنوان (تحذير صحي) لترى بنفسك العجب العجاب من جهل بعض المترجمين الذريع بعملية الترجمة، وسوء اختيار هذه الشركات لمن يوكل إليهم ترجمة تلك النصوص. ومما يزيد الأمر سوءاً أن تلك القطعة تحتوي على معلومات صحيحة تهم مستخدم لوحة المفاتيح، أي أنها من الأهمية بمكان ويفترض أن تكون بلغة عربية سليمة، وستلحظ أخي القارئ أن نظم اللغة الإنجليزية بارز في هذه القطع المترجمة، وأن بعض المفردات متأثرة باللغة الأصل.

تقول هذه القطعة:« عند استعمال الكمبيوتر، كما الحال مع العديد من النشاطات، فإنك قد تختبر أحياناً عدم راحة اليدين أو الذراعين...» لاحظ عبارة« كما الحال» إذ إن صوابها (كما هي الحال)، ولنا أن نتساءل عن معنى (فإنك قد تختبر أحياناً عدم راحة في اليدين، فهل نحن في قاعة امتحان يا ترى أم ماذا؟ إنها ترجمة حرفية للفعل to experience الذي يعني في هذا السياق (يحس) وفي حالته الاسمية يعني (خبرة) فالمترجم جاء ب(يختبر) من (خبرة) فوقع في سوء عمله: استغلاق المعنى على القارئ العربي. ثم تمضي القطعة محذرة (لاحظ الكلمات البارزة): «ولكن إذا راودتك بشكل مستمر أو متكرر أعراض كعدم الراحة أو الألم لا تتجاهل إشارات التحذير هذه وقم عاجلاً بزيارة طبيب صحة في هذا الصدد حتى وإن راودتك تلك الأعراض في وقت لم تكن تعمل فيه على الكمبيوتر أو اعتلالات صحية مؤلمة وأحياناً مؤذية بشكل دائم للأعصاب أو العضلات أو الأوتار». تأمل قوله (راودتك) وكيف لها أن تستقيم مع (أعراض)؟ طبعاً هذا من سوء التأليف ووضع الكلام في غير ما وضع له، لأن (المراودة) في العربية الفصحى تعني (الطلب برفق ولين) (يراجع القاموس، مادة: رود) وليست ببعيد عن أذهاننا الآية الكريمة التي تقول: «وراودته التي هو في بيتها عن نفسه»، والصحيح أن يستخدم المترجم هنا (عاودتك) بدلاً من (راودتك) كذلك (طبيب صحة) فيها تطويل وحشو، والصواب (الطبيب) لأن إضافة الطبيب إلى الصحة مما لا يحتاج إليه السياق، وإنما هو زيادة في الكلام لا مسوغ لها.

ونمضي في القطعة: « وفي الوقت الذي لن يستطع فيه الباحثون الإجابة على العديد من الأسئلة المتعلقة بالاعتلالات العضلية الصقلية حتى الآن، فإن ثمة توافق مشترك بأن العديد من العوامل التي ..» انظر إلى حرف الجر (عن) في هذا السياق لتجد أنه زائد ويخل بالمعنى المراد والأولى حذفه، وأما عبارة (توافق مشترك) هذه فهو يعني بلا ريب (إجماع) لكنه لم يهتد إليها فترجمها حرفياً، هذا مع الخطأ النحوي هنا، إذ يجب أن تكون الكلمتان منصوبتين (توافقاً مشتركاً).

ونستمر في القطعة لتقول: « إنك تجد على القرص المرفق مع لوحة المفاتيح بعض الإرشادات التي تساعدك على العمل على جهازك الكمبيوتر براحة أكبر» ولك أن تستغرب عزيزي القارئ عبارة (جهازك الكمبيوتر) لتعلم يقيناً أنها مناظرة جداً لعبارة your computer الإنجليزية، وكأن المترجم يجهل صياغتها بالعربية، مما يجعلني حقاً أتساءل: كيف نسند ترجمة هذه التحذيرات الصحية التي هي على درجة كبيرة من الأهمية، إلى من لا يلم بتراكيب العربية ومفرداتها بل تغيب عنه طرق نظم الكلام في جملة العربية بشتى وظائفها؟

وبعد، وإذ أنا أتتبع عمل المترجم الهش في القطعة أعلاه، ومن قبيل الشيء بالشيء يذكر، فإنه يحضرني كلام لفؤاد عبد الرزاق (كبير مترجمي هيئة الإذاعة البريطانية) في مقال له بعنوان (مهنة من لا مهنة له مجلة هنا لندن، عدد 74) يقول: « ليست الترجمة كلمات ترص رص الطوب، وليست كلمة أمام كلمة، أو تعبيراً أمام تعبير، وليست معرفة سطحية بلغة أجنبية مقابل لغة عربية ركيكة أو العكس». ويقول:« ليس كل من يعرف لغتين، ولو معرفة بسيطة، وتأبط شراً أو بالأحرى قاموساً، صار مترجماً». ويتابع ملخصاً عملية الترجمة برمتها: «الترجمة إحساس وذوق وفن وإبداع وخلق فني شأنها شأن أي فن آخر».

لذا، فإني في خاتمة هذا المقال أهمس في ضمير المترجمين، بل أصيح فيهم كما صاح عبد الحميد في معشر الكتاب قبل مئات السنين، فأقول: يا معشر المترجمين، يا نقلة العلم والفكر والحضارة، المجتمع يقدر جهودكم ويشيد بمنجزاتكم، لكن لتكونوا أنتم على مستوى المهمات التي تستند إليكم، واعلموا أن الترجمة بحد ذاتها أمانة، وأنها إذا لم تكن متقنة فإنها قد تسيء أكثر مما تحسن.


http://www.ju.edu.jo/old_publication/cultural%20magazine/Translation2.htm